على أية حال إذا أمكنا أن نقارن ما بين العرض الأسطوري أو المنهج الأسطوري في هذه القضية، فنجد الاختلاف والتباين الشديد، ونجد أن القدر الذي يمكن أن نتفق عليه هو وجود طوفان عام! لكن لماذا انتشر؟ ولماذا تفرق في أنحاء الأرض بهذا الشكل, مع أنه ربما كان الاتصال ضعيفاً بين القارات؟!
يمكن أن يقال: لأن الله تعالى جعل ذرية نوح هم الباقين فكل جيل يتحدث عما قبله, فمثلاً: يقولون: كيف انتقل الإنسان من العالم القديم إلى العالم الجديد -أي: إلى الأمريكيتين- مع أنه في العصر الجليدي غطى الجليد المضيق الفاصل ما بين آسيا و أمريكا، ومضيق بيرنغ -أو بيرينج- منطقة ليست عريضة، فعبرت البشرية من هناك؟ الله أعلم؛ لكن هذا أحدها، وقد لا يكون.
المقصود: أن أي جيل انتقل أو عبر من منطقة إلى منطقة وبقي في منطقته يحتفظ في ذاكرته بأن آباءنا قد جاءهم الطوفان، وأنهم قد أُغرقوا!
هنا ملحظ أيضاً أنهم يقولون مثلاً: لماذا في أفريقيا أو في مصر يقل الحديث عن الطوفان؟! التعليل في نظري -والله تعالى أعلم- أنه لما كان الطوفان مستمراً وكان النيل يفيض, والله تعالى عاقب قوم فرعون بالطوفان كما أخبرنا، فمن تكرار الطوفانات لم يعد له تلك القيمة العظيمة المدهشة كما عند الشعوب الأخرى التي يمثل الطوفان لديها معلماً تاريخياً كبيراً؛ لكن المقصود أنه من حيث الجملة هو يدل على أن حدثاً ما قد وقع، وهذا الحدث لا يمكن للعلم الحديث أو لأحد عاقل أن ينفي أن حدثاً ما من هذا النوع قد يقع.
أما عن المنهج التوراتي فجاء الخلل والخطل من كثرة التفاصيل في الأنساب، وكثرة التفاصيل في السنوات، فتفاصيل كثيرة قطعاً نحن نقول: إنها زيدت على النص الأصلي الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى عليه السلام، وطبعاً نحن لا نذهب إلى ما ذكره وأشار له الشيخ رشيد رضا وبعض العلماء أن سفر التكوين أنزل على يوسف، هو الأصل كما هو موجود لدينا؛ لكن الزيادات التي أضيفت مع تقادم العهد، وكون الأحبار والرهبان استحفظوا من كتاب الله تعالى أن يحفظوه فلم يحفظوه، وليس مثل القرآن المحفوظ: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9], حفظه تعالى ولم يستحفظ عليه غيره؛ فلذلك حصلت هذه التعديلات وأدخلت التفاسير ضمن الأصل؛ حتى أصبحنا نجد مثل هذا ليس عجيباً؛ نجد في آخر الأسفار الخمسة يقول: ومات موسى ودفن. هذا طبعاً لا يمكن أن يكون مما أنزله الله تبارك وتعالى على موسى؛ لكن لأنهم هم يكتبون التفسير أو الشرح ويضيفونه على الأصل، ويأتي بعد ذلك أجيال طويلة فتقول: إن هذا كلام الله، ومع الأسف الشديد -كما قلنا- مع أنهم دكاترة جامعات وأساتذة في لبنان وفي مصر وعرب! ومع ذلك يصرون بقوة على أن كل ما في الكتاب المقدس -هذا الذي عمل له دائرة المعارف وغيره- حق، وأنه ثابت، وأنه كله وحي؛ برغم هذه التناقضات وهذه الأوهام.